الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين
أما بعد ...
فقد اطلعت مؤخرا على ما تناولته وسائل العام بشأن حادثة الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر مع الفتاة المنتقبة والتي تدرس في الصف الثاني الإعدادي
وذلك في إحدى المعاهد الأزهرية
حيث قام شيخ الأزهر بتعنيف الطالبة بكلام لا يجوز مطلقا أن يخرج من صاحب هذا المنصب الديني المرموق
وكان هذا التعنيف بسبب لبس الطالبة النقاب داخل الفصل الدراسي
ولكن المعلمة دافعت عن الطالبة بقولها :
أنها لا تلبسه في الفصل
ولكنها لما رأت فضيلتكم والوفد المرافق داخل للفصل
قامت بلبسه
فما كان لشيخ الأزهر إلا أن ردّ عليها بقوله :
النقاب عادة وليس بعبادة !!! .
طبعاً هذا الكلام نزل علىّ كالصاعقة , وتعجبت منه أشد العجب
وذلك لأنني تخرجت في الأزهر الشريف
وكنت في مرحلة الثانوية الأزهرية يُدرَّس لي في مادة التفسير كتاب التفسير الوسيط للدكتور سيد طنطاوي
وكان مقرر علينا في الصف الثاني الثانوي دراسة تفسير سورتي النور والأحزاب للدكتور طنطاوي (عام 1421هـ / 2001م) .
فلما سمعت بهذا الخبر العجيب لم أصدق نفسي
وذلك لأني قرأت (قبل ذلك) كلام الشيخ في النقاب والتعفف
ورأيه في ذلك مخالف تماما لما حدث في تلك الواقعة
فقمت على عجلٍ لمراجعة كتاب التفسير الذي كان مقررا علينا في الصف الثاني الثانوي
لأني وجدت نفسي في حالة ذهول مما سمعته .
فبدأت بفتح الكتاب
لأنظر في ما قاله الدكتور طنطاوي في الكتاب عن حجاب المرأة المسلمة وعن تعفف المسلمات
فلعله قد طال بي الزمن
فلم أدْر ِ ما الذي قاله الدكتور في تلك المرحلة
فبدأت بمحل النزاع وهو النقاب
هل هو عادة أم عبادة
فوجدت الدكتور طنطاوي يقول (صـ 296 من جزء تفسير سورتي النور والأحزاب
طبعة 1421هـ - 2001م / طبع على نفقة المعاهد الأزهرية)
عند تفسير قوله تعالى :
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) :
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة
بالاحتشام والتستر فى ملابسهن فقال - تعالى -
{ يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } .
قال الآلوسي :
روى عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة
تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل
من غير تمييز بين الحرائر والإِماء
وكان في المدينة فساق يتعرضون للإِماء
وربما تعرضوا للحرائر
فإذا قيل لهم قالوا : حسبناهن إماء
فأمرت الحرائر أن يخالفن الإِماء في الزى والتستر فلا يطمع فيهن . .
وقوله :
{ يُدْنِينَ } من الإِدناه بمعنى التقريب
ولتضمنه معنى السدل والإِرخاء عُدِّىَ بعلى .
وهو جواب الأمر
كما فى قوله - تعالى - :
{ قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة . . . . } .
والجلابيب :
جمع جلباب
وهو ثوب يستر جميع البدن
تلبسه المرأة
فوق ثيابها .
والمعنى :
يأيها النبي قل لأزواجك اللائي في عصمتك
وقل لبناتك اللائي هن من نسلك
وقل لنساء المؤمنين كافة
قل لهن : إذا ما خرجن لقضاء حاجتهن
فعليهن أن يسدلن الجلابيب عليهن
حتى يسترن أجسامهن سترا تاما
من رءوسهن إلى أقدامهن
زيادة في التستر والاحتشام
وبعدا عن مكان التهمة والريبة .
قالت أم سلمة - رضي الله عنها - :
لما نزلت هذه الآية
خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها .
وقوله : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ }
بيان للحكمة من الأمر بالتستر والاحتشام .
أي : ذلك التستر والاحتشام والإِدناء عليهن من جلابيبهن يجعلهن أدنى وأقرب إلى أن يعرفن ويميزن عن غيرهن من الإِماء ،
فلا يؤذين من جهة من في قلوبهم مرض .
هذا ، ويرى الإِمام أبو حيان أن الأرجح أن المراد بنساء المؤمنين
ما يشمل الحرائر والإِماء وأن الأمر بالتستر يشمل الجميع
وأن الحكمة من وراء هذا الأمر بإسدال الجلابيب عليهن
درء التعرض لهن بسوء من ضعاف الإيمان .
فقد قال - رحمه الله - :
والظاهر أن قوله :
{ وَنِسَآءِ المؤمنين } يشمل الحرائر والإِماء
والفتنة بالإِماء أكثر لكثرة تصرفهن
بخلاف الحرائر
فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح . .
{ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ }
لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن
ولا يليقين بما يكرهن
لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها .
ويبدو لنا (أي الدكتور طنطاوي)
أن هذا الرأي الذي اتجه إليه أبو حيان - رحمه الله - أولى بالقبول من غيره
لتمشية مع شريعة الإِسلام التي تدعو جميع النساء إلى التستر والعفاف . اهـ .
ثم انتقلت إلى تفسير قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)
فوجدته يقول (صـ 229) : ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار في بيوتهن
وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .
والمعنى :
الْزَمْنَ يا نساء النبي صلى الله عليه وسلم بيوتكن
ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة
ومثلهن في ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن في مثل هذه الأمور ،
هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى
وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف
واقتداء غيرهن بهن .
قال بعض العلماء :
والحكمة في هذا الأمر :
أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن
وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن
ولا يحسنها الرجال
وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهى من شأنهن .
وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما
فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء
وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله
اختل النظام في البيت والمعيشة .
وقال صاحب الظلال ما ملخصه :
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكي يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم
ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها
أوجب على الرجل النفقة
وجعلها فريضة ، كي يُتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال
ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب
وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .
فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده
لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره
ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .
إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة
أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها
فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول
في عصور الانتكاس والشرور والضلال .
وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقاً
وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن
ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة
كأداء الصلاة في المسجد
وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والأقارب
وكقضاء مصالحهن التي لا تقضى إلا بهن ...
بشرط أن يكون خروجهن مصحوبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .
ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .
وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها
ومنه قولهم :
سفينة برجاء
أي : متسعة ولا غطاء عليها .
والمراد به هنا :
إظهار ما ينبغي ستره من جسد المرأة
مع التكلف والتصنع في ذلك .
والجاهلية الأولى
بمعنى المتقدمة
إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة :
أول وأولى .
أو المراد بها :
الجاهلية الجهلاء التي كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .
وقد فسروها بتفسيرات متعددة
منها :
قول مجاهد :
كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال
فذلك تبرج الجاهلية .
ومنها قول قتادة :
كانت المرأة في الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .
ومنها قول مقاتل :
والتبرج :
أنها الخمار على رأسها
ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .
ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه في الآية الكريمة
يشمل كل ذلك
كما يشمل كل فعل تفعله المرأة
ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .
والمعنى :
الزمن يا نساء النبي بيوتكن
فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة
وإذا خرجتن فاخرجن في لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدى إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بستره وإخفائه
واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى
حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال
ويلفت أنظارهم إليهن . اهـ .
ثم بعد ذلك انتقلت أخيراً إلى تفسير قوله تعالى :
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
فوجدت الدكتور يقول (صـ 286) :
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة التي تسمى بآية الحجاب
جملة من الأحكام والآداب منها :
* حرمة الاختلاط بين الرجال والنساء سواء أكان ذلك في الطعام أم في غيره
فقد أمر -
سبحانه -
المؤمنين
إذا سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شيئا أن يسألوهن من وراء حجاب
وعلل ذلك بأن سؤالهن بهذه الطريقة
يؤدى إلى طهارة القلوب
وعفة النفوس ، والبعد عن الريبة وخواطر السوء .
وحكم نساء المؤمنين في ذلك كحكم أمهات المؤمنين
لأن قوله - سبحانه -
{ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ
علة عامة تدل على تعميم الحكم
إذ جميع الرجال والنساء في كل زمان ومكان في حاجة إلى ما هو أطهر للقلوب
وأعف للنفوس .
قال بعض العلماء ما ملخصه :
وقوله :
{ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }
قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم
إذ لم يقل أحد من العقلاء
إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة بهن إلى أطهرية قلوبهن
وقلوب الرجال من الريبة منهن .
فالجملة الكريمة فيها الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء .
لا خاص بأمهات المؤمنين
وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن
لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه .
* كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية عنه .
ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها .
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أن قال : " إني لا أصافح النساء "
والله - تعالى - يقول : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
فيلزمنا أن لا نصافح النساء الأجنبيات اقتداء به صلى الله عليه وسلم . اهـ .
فلما انتهيت من قراءة ما ذكرت
تيقنت فعلا أن كلام الدكتور عن النقاب والعفة هو هو الذي كان منغرسا في ذهني منذ كنت طالبا في المرحلة الثانوية
فسبحان مقلب القلوب
وسبحان العاصم من الزلل
كيف صار الدكتور طنطاوي إلى ما صار إليه .
إلى الله المشتكى
وهو حسبنا ونعم الوكيل